وفاءً لروح رجل

 نعيش في عالم مضطرب مليء بالنفاق، والتملّق للأقوياء، ولهذا فأنا أحنّ إلى هذا الفقيد، ويزورني طيفه بين الحين والحين.

 رجلٌ قطفه الموت، في عزّ الرشد والقوة. اختفى فجأة من ظهر الأرض إلى بطنها. وكأنّه لم يكن. وانقطع صدى صوته إلى الأبد، من التردد في مسامعي. أمّا في أعماق روحي فلا يزال حاضرا.

 “نوني” هكذا كنتُ أناديه، تصغيرا لاسم “نور الدين”. وهو عمّي الذي كنتُ أرافقه بين الطفولة الأولى وحتّى سنّ الخامسة عشرة.

أتذكّره رجلا تعتريه الحياة بعنفوان، كما تتراقص ألوان قوس قزح في سماء تجتمع فيها الشمس والماء.
آخر مرّة رأيتُه فيها، كنتُ حينها فتى يركبُ سيّارة أجرة، تغادر معسكر إلى بشار. وقد كنتُ جالسا في الخلف أنظر إليه من خلال الزجاج الخلفي، بينما تهرول السيارة مبتعدة عنه. رُحتُ أنظر إليه وهو يُلوّح مُودّعا..إلى الأبد.

لطالما كان تمثيلا كاملا للحياة. كان بركان حياة يتفجّر كل يوم، قوّة وحقّا وخيرا ولطفا وانتصارا للضعفاء والمكلومين في هذه الحياة. لقد كان ساعدهم الأيمن، الذي يستندون إليه إذا اشتدّت الظروف.

كان جبّارا عطوفا، حيثما صادف فقيرا أو ضعيفا عضدَه، وقاسمه القليل الذي يملكه حينها. ورغم القوة التي يمتلئ بها والخير الذي يتقمّصه والهيبة التي تسري في عروقه وتنعكس على وجوه البشر ممن يعرفونه، إلا أنّه كان حسّاسا لكلّ ذات ذابلة، إلى كل يد ممدودة وإلى كلّ نفس ذاقت من الدنيا مُرّها.

يا نوني، منذ اختفيت عن تلك الدروب التي عهِدَت أن تطرقها، والمسحوقين الذين كنتَ تعطف عليهم لم يعُد لهم غير الله.

إنّها دُنيا أخرى نعيشها اليوم، بعد سبعة عشر سنة من غيابك. دُنيا أكثر حقارة وصعوبة. دنيا لا يذوق فيها الضعفاء غير الظُلم، وهيهات هيهات أن تراهم ينتصرون.

ذلك الشيخ الوحيد الحاج عبد القادر، الذي جلستَ يوماً بالقرب منه، وربتَّ على كتفيه وقُلتَ له:” لا تحزن لستَ وحيدا، لا تقُل أنّي دون أولاد، أنا ابنُك”. لم يجد بعدك، شخصا مثلك، يشفي وحدتَه، بكلمة كهذه.

والمساكين الذين كُنت تغدق عليهم، بما استطعت، قولا ومالا، ذاقوا الأمرّين، بعدك.

ونحن تلاميذك، الذين ألهمتهم بأسطورتك التي لن تموت، رأينا فيك قُدوة نتطلّع إليها. حتما لم تكن طريقتك، طوق نجاة يحمينا مغبة هذا الزمان، ولا وسيلة للتملّص من الصعاب في ذكاء…

لكنّها كان طريقة الحياة بالحقّ ولأجل الحقّ. أن تقُول ما يجب قوله، حين يجب. أن تفعل الخير، وأن تغضب للحقّ، وعندما يُهادنُ الجميع الباطل ويستظلّون بظلاله الوارفة، لا يجب عليك أن تُهادنه وأن تلفحك نيران الشمس الحارقة خير لك من أن تُصفّق الباطل أو ن تسكت عنه..

أن تكون عفويا فلا تتصنّع، أن تُحبّ الأخيار وتعّبر لهم عن ذلك، وتأبى مصاحبة الأشرار ولا تُجاملهم خوفا أو مصلحة. أن تُكرم ذويك، وتبسُط يدك لجميع من يحتاجك…هذه هي طريقتك، يا نوني، أن تكون “شفّافا، مُحبّا وفعّالا في الخير”.

مشيتُ وراءك، أنا ابن أخيك، مُحبّا، فهل أكرمتني وهل رحّبتَ بي؟ نعم.

ولمّا أتاك الموت أتاك يندسُّ تحت الجلد، يتلمّس موضع الضعف منك، لم يَجده في كبريائك ولا في نفسك العالية، ولا في قلبك القويّ، ولا عقلك الراقي، يا حافظ القرآن، ولا في شيء ممّا يعيب المرء.

وزحف بينما تنام قرير العين، رغم سوء الأفكار التي كانت تراود عقلك آنذاك، عندما عِشتَ أيام الظلم الحالكات. وتسلّل الموت إلى موطئ الضعف، وعندما انفجر ذلك الشريان في رأسك الشريف، صار الكونُ في مأتم.

ذكراك يا نوني، وإن لم تخفق عاليا في سماء ذكرياتنا، وإن لم نُخَلِدها كل يوم، وإن صارت كالعدم، وذوَت حرارتها حتى كادت تتلاشى، إلّا أنّها في صحائف الدّنيا والآخرة خالدة.

قَلّما تُنسى خُطوات ثابتة لرجل تنفّس أوكسيجين الحياة الحقّة، وانتصر لها في دروب حياته. إنّه خلود في عالم الخلود، وليس خلودا في عالم الضباع والخانعين.

لا تحفل يا نوني، يا أيّها الجبّار العطوف، لن تُخلَد في الدّنيا ولا في الأرض الدنيئة، بل أنت خالد في موازين الحقّ والقوة والجمال.

 

طه بونيني

اترك رد